قال تعالى: (والله لا يحب الفساد) وقال تعالى: (والله لا يحب المفسدين) فمفهوم هذه الآيات الكريمات ومقتضاها أن الله عز وجل يبغض الفساد والمفسدين.
والفساد مصطلح تشمئز النفوس السليمة منه، وتسعى لمحاربته بشتى صوره سواء الفساد الأخلاقي أو الاجتماعي أو الإداري أو الاقتصادي، وأعظم الفساد جرما:
ما كان سببا لنشر الرذيلة والصد عن سبيل الله وإشاعة الفحشاء والمنكر، وطريقا لظلم الناس وأكل حقوقهم، فمتى ما ضرب الفساد أطنابه بمجتمع فقل عليه السلام.
ويعظم الفساد عندما يصدر من النخب في المجتمع، والنخب مصطلح حديث يراد به فئات وأفراد ذو مكانة بالمجتمع، ويحظون بنوع من التميز بين أوساطه.
وأيّ مجتمع يشتمل على نخب متنوعة: فهناك النخب الاقتصادية، وهم من يتمتعون بوفرة المال، والنخب الاجتماعية وهم من يتميزون بمكانتهم الاجتماعية لعلاقاتهم أو مناصبهم أو أنسابهم، وهناك النخب المثقفة الذين يتميزون بالثقافة والعلم والمعرفة.
وهناك النخب الإعلامية حسب تخصصاتهم ممن أظهرهم الإعلام عبر وسائله، وإن كان بعضهم ليسوا أهلا لذلك ولكن بسبب الإعلام أصبحوا يعدّون من النخب.
وكل هؤلاء النخبـ من المفترضـ أن يكونوا بشكل عام قدوة حسنة، وسدا منيعا في وجه الفساد، فيحاربون الرذيلة وينشرون الفضيلة، ويسعون لإصلاح المجتمع.
وأيّ فساد تتبناه النخب أو يصدر منهم فهو نذير خطر يهدد أمن المجتمع واستقراره، ويمهد الطريق لتفككه، ويغرس الفوضى فيه، لأن الفساد الخاص بالفرد لا يشكل ضررا عاما لاقتصاره على صاحبه وعدم تعديه لغيره.
أمّا فساد النخب فغالبا لا يقتصر عليهم، ففسادهم دائما ما يكون متعديا بسبب مكانتهم بالمجتمع وهذا مكمن الخطر، فمتى تعدى الفساد للغير.
وبدأ ينتشر بالمجتمع فعندئذ تقع الكارثة، ويعظم البلاء، لأنّ فساد النخب سيلحق الضرر بالمجتمع بأكمله لا محالة، وإذا حل العذاب أو حلت المصائب والنكبات فسوف تشمل جميع المجتمع بمن فيهم النخب.
ويؤّد ذلك مفهوم قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) والمترفين عادة ما يكونوا من النخب لما يتمتعون به من مكانة وسلطة وجاه ووفرة مال، فعصيانهم لأوامر الله عز وجل، ومخالفتهم للشرع المطهر، واستهانتهم بالذنوب والمعاصي، هو الفسق والفساد بعينه الذي استحقوا بسببه العقوبة (فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
ولهذا كان أول من يكفر بالمرسلين ويعارضهم هم المترفين، قال تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين).
ومن المؤسف أن كثيرا من النخب لا يلقون لهذا الأمر حسابا، اعتقادا منهم بأنهم في مأمن مما سيلحق بالمجتمع من مصائب ونكبات، فيسعون بالفساد وكأنهم في مأمن من عذاب الله وسخطه، فنجد بعض فئات النخب يستغلون مكانتهم الاجتماعية أو الاقتصادية لتمرير فسادهم وفرضه بالمجتمع بالقوة متخذين لذلك شتى السبل.
حتى وإن كانت الأكثرية على خلافهم فهم لا يكترثون لذلك، لما لهم من نفوذ وسلطة، ويعظم الخطب ويزداد الخطر عندما يحاولون إعطاء الفساد الصبغة الحسنة، وإظهاره بالشكل الحسن (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).
ومن يتأمل بحال كثير من الدول التي أصابها الربيع العربي يعلم بأن فساد النخب وما نتج عنه من كثرة المعاصي والبعد عن المنهج الرباني سبب رئيسي لتلك الثورات، ولو كان يعلم النخب بأن فسادهم سبب لهلاكهم لما أقدموا عليه، فأول الخاسرين وأشدهم تألما هم النخب.
وهنا يأتي دور المصلحين والعقلاء من النخب في المجتمع سواءً النخب الاجتماعية أو الاقتصادية أو المثقفة فعليهم مسؤولية عظيمة للحفاظ على أمن واستقرار المجتمع، ففسادهم فسادا للمجتمع، وصلاحهم صلاح وأمان لهم وللمجتمع بإذن الله تعالى، لأن المجتمع كسفينة في لجج البحر متى ما عبث المفسدون فيها دون رادع غرقت فهلك الجميع.
وقد ورد في الحديث الصحيح عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليها وسلم أنها قالت:
(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
الكاتب: محمود بن عبدالله القويحص/ مجموعة د. عبد العزيز قاسم البريدية
المصدر: موقع عودة ودعوة